كيف ننظر إلى التاريخ؟
Comment Regarder L'Histoire?
دخلت إلى قسم السنة الأولى ثانوي لاستكمال ما بدأته مع التلاميذ في الصباح، فوجدت السبورة مملوءة بخط الأستاذ السردي. كان عنوان الدرس المكتوب: "دور المسجد في بناء الأمة وصنع التاريخ". وتحته كتِبَتْ هذه العناصر: الدور السياسي والدور الاجتماعي والدور التعليمي والدور الديني، وتحت كل عنصر رئيسي عناصره الفرعية. لكن السردي لا يعترف بأن الدور التعليمي أخذته من المسجد المدارس والمعاهد والجامعات، كما حملت الأحزاب عن كاهله الدور السياسي، والجمعيات الدور الاجتماعي، وبقي له أهم دور وهو الدور الأخلاقي لأنه أساس لها جميعا؛ يوقظ ضمير الفرد، ويحرص على لحمة المجتمع وسلوكه السوي. يهتم السردي بإحياء دور المسجد السياسي لغاية في نفس يعقوب بل في نفس السردي وحاشا النبي يعقوب.
كان عبد الرحمن السردي يستغل الحصص الأولى لمعرفة ميول التلاميذ وآرائهم، لاختيار من لديهم استعداد للتأطير والتنظيم. سمعت عنه أثناء دراستي في القاهرة. تخرج قبلي من قسم التاريخ بكلية الآداب، فهو يكبرني بسنوات، ولكنه ظل في مصر حيث جندته جماعة التكفير والهجرة، وشارك في التدريب السري على مختلف أنواع الأسلحة. أكد لي من يعرفه أنه كان طموحا منذ صغره، يحب لفت الأنظار إليه، ووجد في التنظيم مجالا لتحقيق طموحه السياسي، كما وجد فيه التنظيم عنصرا هاما لذكائه وإتقانه الفرنسية. رأيته مرة واحدة في دار الطلبة الجزائريين، وتحاشيته لما سمعت عن تطرفه ونزعته للسيطرة والعنف. ويشاع أنه اعتقل سنتين في مصر، وأن عرجه ناتج عن قفزه من حائط مرتفع أثناء ملاحقة الشرطة له. والأمر المؤكد أنه طرد من القاهرة قبل عامين، وبدأ يدرّس في الثانوية. وأول درس يلقّنه لتلاميذه المنضمين إلى التنظيم يتمثل في ثلاثة أسس: أولها أن الأعمال العظيمة تحتاج إلى قلوب حديدية، ويجب أن ينزع أنصاره من قلوبهم العواطف والرحمة والشفقة، ويتركوها للنساء حتى يستطيعوا تحقيق غايتهم العظيمة بالجهاد. وثانيها أن صلاح هذه الأمة يجب أن يتم ولو بقتل الثلثين لإصلاح الثلث. وثالثها أن طاعة أمير الجماعة طاعة مطلقة في كل أمر واجبة لتحقيق ما تقدم.
كان التاريخ بالنسبة إليه هو تاريخ الإسلام والدولة الإسلامية، وهو ينحصر في فترة الرسول الكريم[ص] والخلفاء الراشدين. والهدف من دراسته هو استعادة أمجاد الماضي لحث الأجيال الجديدة على إعادة بناء دولة الإسلام. أما تاريخ الأمويين والعباسيين ومن بعدهم، فقد اغتصبت فيه الخلافة، وكان الحكم مدنيا لا دينيا، منحرفا عن جادة الإسلام الصحيح. ولا وجود للتاريخ قبل الإسلام فهو تاريخ وثني لا يستحق أن يدرس. كما أن تاريخ الأمم غير المسلمة هو تاريخ الكفر والإلحاد.
قارنت بين نظرته للتاريخ ونظرة خالي العروسي الذي ينظر إليه كابن خلدون و"توينبي" وكل المؤرخين العظام على أنه تاريخ حضارات إنسانية متعاقبة للجنس البشري كله، يدرس من خلاله التلميذ الأسباب التي أدت إلى نشوء الحضارات وازدهارها، ومعرفة العوامل التي أدت إلى انهيارها، مقيّماً كل حضارة تقييماً موضوعياً يبرز مزاياها ومساهمتها في مجالات التقدم الإنساني، كما يظهر عيوبها، بما في ذلك الحضارة العربية الإسلامية، لأن ذكر المزايا والعيوب ضروري للاستفادة من دروس الماضي في بناء المستقبل، حتى لا يعيد التاريخ نفسه إعادة غبية بلهاء.
مسحت السبورة وتابعت ما بدأته في الصباح مع التلاميذ.